فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم ومنشا ورحمة امرأة أيوب.
وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة.
وقيل: إن يعقوب بقي عند يوسف عشرين سنة، ثم توفي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: أقام عنده ثماني عشرة سنة.
وقال بعض المحدّثين: بضعًا وأربعين سنة؛ وكان بين يعقوب ويوسف ثلاث وثلاثون سنة حتى جمعهم الله.
وقال ابن إسحق: ثماني عشرة سنة، والله أعلم.
الثانية: قال سعيد بن جُبير عن قَتَادة عن الحسن في قوله: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} قال: لم يكن سجودًا، لكنه سنة كانت فيهم، يُومِئون برؤوسهم إيماء، كذلك كانت تحيتهم.
وقال الثّوري والضحّاك وغيرهما: كان سجودًا كالسجود المعهود عندنا، وهو كان تحيتهم.
وقيل: كان انحناء كالركوع، ولم يكن خرورًا على الأرض، وهكذا كان سلامهم بالتَّكفِّي والانحناء، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلًا عن الانحناء.
وأجمع المفسِّرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة؛ قال قَتَادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم؛ وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة.
قلت: هذا الانحناء والتَّكفِّي الذي نُسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية، وعند العجم، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض؛ حتى أن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤُبه به، وأنه لا قدر له؛ وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض، عادة مستمرة، ووراثة مستقرة لاسيما عند التقاء الأمراء والرؤساء.
نَكَبوا عن السُّنَنِ، وأعرضوا عن السَّنَن.
وروى أنس بن مالك قال: قلنا يا رسول! أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا؟ قال: «لا»؛ قلنا: أفيعتَنِق بعضنا بعضًا؟ قال: «لا». قلنا: أفيصافح بعضنا بعضًا؟ قال: «نعم» خرّجه أبو عمر في التمهيد فإن قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيّدكم وخَيْرِكم» يعني سعد بن معاذ قلنا: ذلك مخصوص بسعد لما تقتضيه الحال المعيّنة؛ وقد قيل: إنما كان قيامهم لينزلوه عن الحمار؛ وأيضًا فإنه يجوز للرجل الكبير إذا لم يؤثِّر ذلك في نفسه، فإن أثّر فيه وأعجب به ورأى لنفسه حظًا لم يجز عَوْنه على ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوّأ مقعده من النار» وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنه لم يكن وجهٌ أكرمَ عليهم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يقومون له إذا رأوه، لما يعرفون من كراهته لذلك.
الثالثة: فإن قيل: فما تقول في الإشارة بالإصبع؟ قيل له: ذلك جائز إذا بَعد عنك، لتعيّن له به وقت السلام، فإن كان دانيًا فلا؛ وقد قيل بالمنع في القرب والبعد؛ لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تَشبَّه بغيرنا فليس منا» وقال: «لا تُسلِّموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالأكُفّ والنّصارى بالإشارة».
وإذا سَلَّم فإنه لا يَنحني، ولا أن يُقبِّل مع السّلام يده، ولأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله.
وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم، ولا يتبعون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيمًا منهم لكبرائهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رؤوس أكاسرتها» فهذا مثله.
ولا بأس بالمصافحة؛ فقد صافح النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة، وأمر بها، وندب إليها، وقال: «تصافحوا يذهب الغِلّ» وروى غالب التَّمَّار عن الشّعبيّ أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا التقوا تَصافحوا، وإذا قدموا من سفر تَعانقوا؛ فإن قيل: فقد كره مالك المصافحة؟ قلنا: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سُحْنون وغيره من أصحابنا؛ وقد روي عن مالك خلاف ذلك من جواز المصافحة، وهو الذي يدلّ عليه معنى ما في الموطأ؛ وعلى جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف.
قال ابن العربي: إنما كره مالك المصافحة لأنه لم يرها أمرًا عامًا في الدِّين، ولا منقولًا نقل السلام؛ ولو كانت منه لاستوى معه.
قلت: قد جاء في المصافحة حديث يدلّ على الترغيب فيها، والدّأب عليها والمحافظة؛ وهو ما رواه «البَرَاء بن عازب قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقلت: يا رسول الله! أن كنت لأحسب أن المصافحة للأعاجم؟ فقال: نحن أحق بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودةً بينهما ونصيحةً إلا أُلقيت ذنوبُهما بينهما».
قوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن} ولم يقل من الجُبّ استعمالا للكرم؛ لئلا يُذكِّر إخوته صنيعهم بعد عفوه (عنهم) بقوله: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}.
قلت: وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية: ذِكْرُ الجَفَا في وقت الصَّفَا جَفَا؛ وهو قول صحيح دَلَّ عليه الكتاب.
وقيل: لأن في دخوله السجن كان باختياره بقوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إليَّ مِمَّا يَدْعُونَنيِ إلَيْهِ} وكان في الجبّ بإرادة الله تعالى له.
وقيل: لأنه كان في السجن مع اللصوص والعُصَاة، وفي الجبّ مع الله تعالى؛ وأيضًا فإن المِنّة في النّجاة من السّجن كانت أكبر، لأنه دخله بسبب أَمْرٍ هَمَّ به؛ وأيضًا دخله باختياره إذ قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ} فكان الكَرْب فيه أكثر؛ وقال فيه أيضًا: {اذكرني عِنْدَ رَبِّكَ} فعوقب فيه.
{وَجَاءَ بِكُمْ مِّنَ البدو} يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان، وكانوا أهل مواشٍ وبَرية؛ وقيل: كان يعقوب تحوّل إلى بادية وسَكَنها، وأن الله لم يبعث نبيًا من أهل البادية.
وقيل: إنه كان خرج إلى بَدَا، وهو موضع؛ وإياه عنى جَمِيل بقوله:
وأنتِ التي حَبَّبْتِ شَغْبًا إلى بَدَا ** إليّ وأوطانيِ بلادٌ سِواهُمَا

وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل.
يقال: بَدَا القومُ بَدْوًا إذا أَتَوا بَدَا، كما يقال: غَاروا غَوْرًا أي أَتَوا الْغَوْر؛ والمعنى: وجاء بكم من مكان بَدَا؛ ذكره القشيريّ، وحكاه الماوَرْديّ عن الضحّاك عن ابن عباس.
{مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي} بإيقاع الحسد؛ قاله ابن عباس.
وقيل: أفسد ما بيني وبين إخوتي؛ أحال ذنبهم على الشيطان تكرمًا منه.
{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ} أي رفيق بعباده.
وقال الخَطَّابيّ: اللطيف هو البَرّ بعباده الذي يَلطُف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبّب لهم مصالحهم من حيث لا يَحتسبون؛ كقوله: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ} [الشورى: 19].
وقيل: اللطيف العالم بدقائق الأمور؛ والمراد هنا الإكرام والرفق.
قال قَتادة، لطف بيوسف بإخراجه من السجن، وجاءه بأهله من البدو، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان.
ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشَارَفَ أرض مصر وبلغ ذلك يوسف استأذن فرعون واسمه الريان أن يأذن له في تَلقِّي أبيه يعقوب، وأخبره بقدومه فأذن له، وأمر الملا من أصحابه بالركوب معه؛ فخرج يوسف والملك معه في أربعة آلاف من الأمراء مع كل أمير خَلْقٌ الله أعلم بهم؛ وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب، فكان يعقوب يمشي متكئًا على يد يهوذا؛ فنظر يعقوب إلى الخيل والناس والعساكر فقال: يا يهوذا! هذا فرعون مصر؟ قال: لا، بل هذا ابنك يوسف؛ فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمُنع من ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل؛ فابتدأ يعقوب بالسلام فقال: السلام عليك يا مُذْهِب الأحزان، وبكى وبكى معه يوسف؛ فبكى يعقوب فرحًا، وبكى يوسف لِما رأى بأبيه من الحزن؛ قال ابن عباس: فالبكاء أربعة، بكاءٌ من الخوف، وبكاءٌ من الجزع، وبكاء من الفرح، وبكاءُ رياءٍ.
ثم قال يعقوب: الحمد لله الذي أقرّ عيني بعد الهموم والأحزان، ودخل مصر في اثنين وثمانين من أهل بيته؛ فلم يخرجوا من مصر حتى بلغوا ستمائة ألف ونيف ألف؛ وقطعوا البحر مع موسى عليه السلام؛ رواه عِكْرِمة عن ابن عباس.
وحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنسانًا ما بين رجل وامرأة، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة (ألف) وسبعون ألفًا.
وقال الربيع بن خَيْثَم: دخلوها وهم اثنان وسبعون ألفًا، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف.
وقال وهب: (بن منبه) دخل يعقوب وولده مصر وهم تسعون إنسانًا ما بين رجل وامرأة وصغير، وخرجوا منها مع موسى فِرارًا من فرعون، وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلًا مقاتلين، سوى الذرية والهَرْمى والزَّمْنى؛ وكانت الذرّية ألف ألف ومائتي ألف سوى المقاتلة.
وقال أهل التواريخ: أقام يعقوب بمصر أربعًا وعشرين سنة في أغبط حال ونعمة، ومات بمصر، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحق بالشام ففعل، ثم انصرف إلى مصر.
قال سعيد بن جُبير: نقل يعقوب صلى الله عليه وسلم في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، ووافق ذلك يوم مات عِيصو، فدفنا في قبر واحد؛ فمن ثَمَّ تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس، مَنْ فَعَل ذلك منهم؛ ووُلد يعقوب وعِيصُو في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعًا مائة وسبعًا وأربعين سنة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه} يعني ضم إليه: {أبويه} قال أكثر المفسرين: هو أبوه يعقوب وخالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين وقال الحسن هما أبوه وأمه وكانت حية بعد، وقيل: إن الله أحياها ونشرها من قبرها حتى تسجد ليوسف تحقيقًا لرؤياه والأول أصح: {وقال ادخلوا مصر} قيل المراد بالدخول الأول في قوله فلما دخلوا على يوسف أرض مصر وذلك حين استقبلهم ثم قال ادخلوا مصر يعني البلد وقيل إنه أراد بالدخول الأأول دخولهم مصر وأراد بالدخول الثاني الاستطيان بها أي أدخلوا مصر مستوطنين فيهما: {إن شاء الله آمنين} قيل إن هذا الاستثناء عائد إلى الأمن لا إلى الدخول والمعنى ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله وقيل إنه عائد إلى الدخول فعلى هذا يكون قد قال ذلك لهم قبل أن يدخلوا مصر، وقيل: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الاستغفار فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله وقيل إن الناس كانوا يخافون من ملوك مصر فلا يدخلها أحد إلا بجوارهم فقال لهم يوسف ادخلوا مصر آمنين على أنفسكم وأهليكم إن شاء الله فعلى هذا يكون قوله إن شاء الله للتبرك فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع علمه أنه لاحق بهم: {ورفع أبويه على العرش} يعني على السرير الذي كان يجلس عليه يوسف والرفع النقل إلى لعلو: {وخروا له سجدًا} يعني يعقوب وخالته ليا وإخوته وكانت تحية الناس يومئذ السجود وهو الانحناء والتواضع ولم يرد به حقيقة السجود مع وضع الجبهة على الأرض على سبيل العبادة.
فإن قلت كيف استجاز يوسف عليه السلام أن يسجد له أبوه وهو أكبر منه وأعلى منصبًا في النبوة والشيخوخة؟ قلت: يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك لتحقيق رؤياه، ثم في معنى هذا السجود قولان: أحدهما أنه كان انحناء على سبيل التحية كما تقدم فلا إشكال فيه، والقول الثاني أنه كان حقيقة السجود وهو وضع الجبهة على الأرض وهو مشكل لأن السجود على هذه الصورة لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى، وأجيب عن هذا الإشكال بأن السجود كان في الحقيقة لله تعالى على سبيل الشكر له وإنما كان يوسف كالقبلة كما سجد الملائكة لآدم ويدل على صحة هذا التأويل قوله ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدًا وظاهر هذا يدل على أنهم لما صعدوا على السرير خروا سجدًا لله تعالى ولو كان ليوسف لكان قبل الصعود لأن ذلك أبلغ من التواضع.
فإن قلت يدفع صحة هذا التأويل قوله: {رأيتهم لي ساجدين} وقوله: {خروا له سجدًا} فإن الضمير يرجع إلى أقرب المذكورات وهو يوسف.
قلت: يحتمل أن يكون المعنى وخروا لله سجدًا لأجل يوسف واجتماعهم به وقيل يحتمل أن الله أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية وهي أن إخوة يوسف ربما احتملتهم الأنفة والتكبر عن السجود ليوسف فلما رأوا أن أباهم قد سجد له سجدوا له أيضًا فتكون هذه السجدة على سبيل التحية والتواضع لا على سبيل العبادة وكان ذلك جائزًا في ذلك الزمان فلما جاء الإسلام نسخت هذه الفعلة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه: {وقال} يعني وقال يوسف عند ما رأى ذلك: {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} يعني هذا تصديق الرؤيا التي رأيت في حال الصغر: {قد جعلها ربي حقًا} يعني في اليقظة واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها فقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد أربعون سنة، وقال أبو صالح عن ابن عباس: اثنتان وعشرون سنة، وقال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي: ست وثلاثون سنة، وقال قتادة: خمس وثلاثون سنة، وقال عبد الله بن سودون: سبعون سنة، وقال الفضيل بن عياض: ثمانون سنة، حكى هذه الأقوال كلها ابن الجوزي وزاد غيره عن الحسن: أن يوسف كان عمره حين ألقي في الجب سبع عشرة سنة وأقام في العبودية والسجن والملك مدة ثمانين سنة وأقام مع أبيه وإخوته وأقاربه مدة ثلاث وعشرين سنة وتوفاه الله وهو ابن مائة وعشرين سنة وقوله: {وقد أحسن بي} يعني أنعم عليّ يقال أحسن بي وإليّ بمعنى واحد: {إذ أخرجني من السجن} إنما ذكر إنعام الله عليه في إخراجه من السجن وإن كان الجب أصعب منه استعمالًا للأدب والكرم لئلا يخجل إخوته بعد أن قال لهم لا تثريب عليكم اليوم ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن كانت أعظم من إخراجه من الجب وسبب ذلك أن خروجه من الجب كان سببًا لحصوله في العبودية والرق وخروجه من السجن كان سببًا لوصوله إلى الملك وقيل إن دخوله الجب كان لحسد إخوته ودخوله السجن كان لزوال التهمة عنه وكان ذلك من أعظم نعمه عليه: {وجاء بكم من البدو} يعني من البادية وأصل البدو والبسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني يظهر والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية: {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} يعني أفسد ما بيننا بسبب الحسد وأصل النزغ دخول في أمر لإفساده واستدل بهذه الآية من يرى بطلان الجبر من المبتدعة قالوا لأن يوسف أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ولو كان من فعل الله لوجب أن ينسب إليه كما في الإحسان والنعم، والجواب عن هذا الاستدلال أن إسناد الفعل إلى الشيطان وإضافته إليه على سبيل المجاز وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي إضافة الفعل إلى الشيطان لا على الحقيقة لأن الفاعل المطلق المختار هو الله تعالى في الحقيقة {قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فثبت بذلك أن الكل من عند الله وبقضائه وقدره ليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوة والتحريش لإفساد ذات البين وذلك بإقدار الله إياه على ذلك: {إن ربي لطيف لما يشاء} يعني أنه تعالى ذو لطف عالم بدقائق الأمور وخفياتها.
قال صاحب المفردات: وقد يعب باللطف عما تدركه الحاسة ويصح أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه وأن يكون لمعرفه بدقائق الأمور وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم، وقوله: إن ربي لطيف لما يشاء، أي حسن الاستخراج تنبيهًا على ما أوصل إلى يوسف حين ألقاه إخوته في الجب.
وقيل إن اجتماع يوسف بأبيه وإخوته بعد طول الفرقة وحسد إخوته له وإزالة ذلك مع طيب الأنفس وشدة المحبة كان من لطف الله بهم حيث جعل ذلك كله لأن الله تعالى إذا أراد أمرًا هيأ أسبابه: {إنه هو العليم} يعني بمصالح عباده: {الحكيم} في جميع أفعاله.
قال أصحاب الأخبار والتواريخ: إن يعقوب أقام عنه يوسف بمصر أربعًا وعشرين سنة في أهنأ عيش وأنعم بال وأحسن حال فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند قبر أبيه إسحاق في الأرض المقدسة بالشام فلما مات يعقوب عليه السلام بمصر فعل يوسف ما أمره به أبوه فحمل جسده في تابوت من ساج حتى قدم به الشام فوافق ذلك موت العيص أخي يعقوب وكانا قد ولدا في بطن واحد فدفنا في قبر واحد وكان عمرهما مائة وسبعًا وأربعين سنة فلما دفن يوسف أباه وعمه رجع إلى مصر.
قالوا لما جمع الله شمل يوسف بأبيه وإخوته علم أن نعيم الدنيا زائل سريع الفناء لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة والخاتمة الصالحة. اهـ.